نشرتها أميركا في مياه الخليج وتسعى إليها إيران.. هل تغير القوارب المسيرة وجه الحرب في البحر؟


تلعب الطائرات المسيرة أدوارا محورية في عدد من النزاعات والحروب الدائرة حول العالم، منها حرب أذربيجان وأرمينيا، التي استطاعت فيها أذربيجان استعادة السيطرة على إقليم “قره باغ” عام 2020، وهو ما لم يكن ممكنا لولا استخدام الأولى الطائرات المسيرة التركية “بيرقدار”، ومنها مؤخرا الدور الفعال الذي لعبته المسيرات التركية ذاتها لمساعدة أوكرانيا في الصمود أثناء الأيام الأولى من الحرب التي شنَّتها القوات الروسية في فبراير/شباط الماضي، وقبل وصول شحنات المساعدات العسكرية الأوروبية والأميركية.

 

أما على الأرض، فتتخذ المركبات المسيرة أشكالا متعددة وتسهم في مجالات مختلفة، منها الاستكشاف والمراقبة، وجمع المعلومات الاستخبارية، وتفكيك الذخائر المتفجرة، ونزع الألغام. ففي عام 2011، وخلال الزلزال المدمر الذي ضرب اليابان في 11 مارس/آذار، وتسبب في انهيار المفاعل النووي بمدينة “فوكوشيما” وخلَّف كارثة بيئية خطيرة؛ استُخدمت المَركَبات المسيرة على الأرض للبحث بين الركام المشع. وفي عام 2018، كشف الجيش الروسي عن استخدامه المركبة المسيرة على الأرض من طراز “أوران-9” في معارك قتالية في سوريا لاختبار قدراتها.

 

مع انتشار هذه المركبات المسيرة برًّا وجوًّا واحتدام التنافس الدولي عليها، ومحاولة الجيوش حول العالم تقليل خسائرها البشرية من الجنود في المعارك البرية والجوية، لا يمكننا منع أنفسنا من تخيل المعارك التي قد تخوضها هذه الجيوش بحرا باستخدام “قوارب مسيرة” لضرب سواحل البلد الخصم مثلا أو تدمير أسطولها البحري، دون تعريض جنود البحرية للخطر. لا يُعَدُّ هذا السيناريو خياليا بالكامل، إذ تنتشر بالفعل المركبات البحرية غير المأهولة (القوارب المسيرة) في شتى أنحاء المحيطات حاليا، وهي عبارة عن قوارب يتراوح طولها من 3 إلى 40 مترا، وتعمل بالطاقة الشمسية أو بطاقة الرياح غالبا، ويجري إطلاقها فوق سطح المياه بعد برمجتها على خط سير معين، وتتحكم فيها عناصر بشرية عن بُعد من خلال وحدات تحكُّم على اليابسة.

 

القوارب المسيرة تطوف المحيطات

سفينة سطحية بدون طيار إكسبلورر من طراز Saildrone Explorer (رويترز)

تُعَدُّ المساهمة الأكبر لهذه القوارب المسيرة حاليا في المجالات العلمية، حيث تعمل على تكوين فهم أعمق للبحار والمحيطات، ومن ثم مساعدة العلماء في تحديد المشكلات المناخية الأكثر إلحاحا، وربما ابتكار حلول لمواجهتها. وبحسب شركة “سيلدورن” الأميركية التي تصنع مثل هذه القوارب وتُشغِّلها وتوزعها؛ فإنها تطوف في مختلف المحيطات حول العالم، مُزوَّدة بكاميرات وأنظمة تحديد المواقع (جي بي إس) بهدف جمع أكبر قدر من البيانات، لا سيما من تلك الأجزاء البعيدة في المحيطات التي لا يصل إليها العلماء عادة. وبتحليل تلك البيانات، تقول شركة “سيلدرون” إن ذلك يساعد في مراقبة أمن وسلامة المسطحات المائية، وإلقاء نظرة على بعض العمليات التي تؤثر في البشر وسلامتهم مثل تدوير الكربون، وحركة الصيد العالمية، والتنبؤ بأحوال الطقس، والتغير المناخي.

 

وقد أطلقت الشركة مهمة تُعَدُّ الأولى من نوعها لجمع البيانات حول الأعاصير قبل وأثناء حدوثها. وفي عام 2021، انطلقت خمسة قوارب مسيرة تابعة للشركة نحو مناطق مختلفة من المحيط الأطلسي، مُجهزة بـ”أجنحة مقاومة للأعاصير” تستطيع الصمود أمام رياح تصل سرعتها إلى 145 كيلومترا في الساعة، وأمام أمواج عاتية يصل ارتفاعها إلى 15 مترا. وبالفعل، شهد أحد هذه القوارب تَشكُّل “الإعصار سام” في سبتمبر/أيلول من العام الماضي بالقرب من سواحل “بورتوريكو”. وظل القارب المسير صامدا في المياه لساعات أثناء الإعصار، الذي وصلت سرعة رياحه إلى أكثر من 193 كيلومترا/ساعة، وبلغ ارتفاع أمواجه أكثر من 15 مترا. واستمر القارب في إرسال بيانات لحظة بلحظة تقريبا من داخل الإعصار إلى وحدة التحكم التابعة لـ”سيلدرون”، وقالت الشركة حينها إن المهمة تمهيد للتوسُّع في مهام التنبؤ بالأعاصير.

 

قبل ذلك بعامين تقريبا، تحديدا في عام 2019، أطلقت شركة “سيلدرون” مهمة أخرى غير مسبوقة لاستكشاف المحيط المتجمد الجنوبي بقوارب مسيرة. وانطلقت القوارب في رحلتها في يناير/كانون الثاني عام 2019 من نيوزيلندا، واستمرت 196 يوما، وقطعت مسافة وصلت إلى 22 ألف كيلومتر في محيط القارة القطبية الجنوبية. وتقول الشركة إن البيانات التي جمعها القارب المسير مهمة نظرا لعدم استكشاف مساحات شاسعة من محيط القارة الجنوبية حتى يومنا هذا بسبب الظروف المناخية القاسية. ويلعب المحيط المتجمد الجنوبي دورا محوريا في مسألة التغير المناخي، إذ يعتقد العلماء أنه يمتص ما يُقدَّر بـ550 مليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وهو ما أكَّدته رحلة “سيلدرون”.

 

وتتعاون “سيلدرون” في هذه المهمات مع العديد من الجامعات المرموقة حول العالم، علاوة على الهيئات الحكومية، والجهات الخاصة في الولايات المتحدة وخارجها مثل وكالة “ناسا”، والإدارة الأميركية الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، ومركز “هيلمهولتز” الألماني لأبحاث المحيطات.

 

الجيوش لن تفوت الفرصة

Warships attend a joint naval exercise of the Iranian, Chinese and Russian navies in the northern Indian Ocean January 19, 2022. Picture taken January 19, 2022. Iranian Army/WANA (West Asia News Agency) via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE HAS BEEN SUPPLIED BY A THIRD PARTY.

رغم أن استخدام القوارب المسيرة يُعَدُّ تجربة حديثة، فإن التجربة الأولى لتطوير قارب مسير واختباره تعود إلى عام 1898، حينما طوَّر العالم “نيكولا تسلا” أول قارب يتم التحكم فيه عن بُعد وأطلق عليه اسم “تيلي – أوتوماتون”. أما الاستخدام الأول للقوارب المسيرة في مهمة عسكرية فيعود إلى الحرب العالمية الثانية، حينما استخدم جيش ألمانيا النازية قاربا يمكن التحكم فيه عن بُعد وزوده بالمتفجرات لاستهداف السفن التابعة لقوات الحلفاء.

 

ولكن بحسب دراسة أجرتها مؤسسة “راند” للأبحاث ونُشرت نتائجها عام 2013، فإن القوارب المسيرة لا تزال تؤدي مهمات عسكرية على نحو أقل، كما أنها لا تشارك في معارك قتالية ولا يجري تزويدها بالسلاح. ومن أمثلة هذه المهمات العسكرية: الاستكشاف وجمع المعلومات، وزرع الألغام أو مكافحتها، وتأمين الملاحة البحرية والقوارب الصغيرة، ولأغراض التدريب والاختبار، ولأغراض دفاعية ضد حرب الغواصات. وحتى عام 2013، كانت الولايات المتحدة تمتلك أكثر بقليل من 30 قاربا مسيرا جرى تصنيعها محليا، فيما صنعت دول أخرى صديقة لواشنطن أقل من هذا العدد، ومن ثمَّ وصل عدد القوارب المسيرة عالميا آنذاك إلى 63 قاربا مسيرا، تمتلك منها بريطانيا 9 قوارب، فيما تمتلك إسرائيل قاربين فقط، وكذلك الحال مع الصين، وجميعها قوارب وصلت إلى مراحل متقدمة من الاختبار وإثبات الكفاءة، وتُستخدم في تطبيقات مدنية أو عسكرية.

 

بحسب باحثي “راند”، انكمشت حصة الولايات المتحدة في سوق تصنيع القوارب المسيرة بسبب دخول مُصنِّعين من دول أخرى إلى السوق، إذ تعمل شركات في كلٍّ من إسرائيل والسويد وسنغافورة وإيطاليا وبريطانيا وحتى روسيا على تطوير وتصنيع قوارب مسيرة قادرة على حمل أسلحة فتاكة وغير فتاكة، بمستشعرات متطورة يمكنها استقبال البيانات وإرسالها. وبالفعل توظف القوات البحرية في كلٍّ من نيجيريا وإسرائيل وسنغافورة هذه القوارب المسيرة في مهمات بغرض الاستكشاف والمراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية، ما يساعدها في تأمين الموانئ والمرافئ، ومكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات، وحماية البنى التحتية للنفط والغاز الطبيعي. فيما يستهدف عدد من القوات البحرية الأوروبية في كلٍّ من الدنمارك والسويد وألمانيا وبريطانيا استخدام هذه القوارب المسيرة كاسحات للألغام.

 

لم تقف الأمور عند هذا الحد، حيث بات في إمكان البحرية الأميركية اليوم استخدام أنواع من القوارب المسيرة التي ما زالت قيد التطوير في جمع المعلومات الاستخباراتية والمراقبة والاستكشاف في بيئات مائية مختلفة، كما فعلت في الخليج مؤخرا وفقا لما نقله عدد من وسائل الإعلام. كما يمكن أن تُستخدم هذه القوارب للتصدي السريع لهجوم جوي، وربما تعطيل مستشعرات الخصم، وربما في شن هجوم قصير ومتوسط وطويل المدى موجَّه إلى اليابسة في المستقبل القريب.

 

إيران “تخطف” القوارب المسيرة

قد ترغب إيران بلعب جميع أوراقها المتاحة أمام الولايات المتحدة، ولعل هذا ما دفع سفينة مقاتلة إيرانية إلى محاولة "خطف" قاربين مسيرين تابعين لشركة "سيلدرون" الأميركية.
قد ترغب إيران بلعب جميع أوراقها المتاحة أمام الولايات المتحدة، ولعل هذا ما دفع سفينة مقاتلة إيرانية إلى محاولة “خطف” قاربين مسيرين تابعين لشركة “سيلدرون” الأميركية. (سيلدرون)

مع كل هذه القدرات الواعدة للقوارب المسيرة، قد يكون الأمر مقلقا بالنسبة لخصوم الولايات المتحدة، لا سيما إيران، التي تدهورت علاقاتها بواشنطن كثيرا منذ انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة باسم “اتفاق فيينا” (الاتفاق النووي الإيراني)، وفرضه المزيد من العقوبات على إيران، وتصنيف الحرس الثوري الإيراني على أنه منظمة إرهابية.

 

ومع استمرار تعثُّر المفاوضات الجارية في العاصمة النمساوية فيينا بين ممثلي إيران ونظرائهم الأوروبيين للاتفاق على شروط عودة الولايات المتحدة إلى الالتزام بالاتفاق النووي، قد ترغب إيران بلعب جميع أوراقها المتاحة أمام الولايات المتحدة، ولعل هذا ما دفع سفينة مقاتلة إيرانية إلى محاولة “خطف” قاربين مسيرين تابعين لشركة “سيلدرون” الأميركية.

 

وفقا لبيان أصدره الأسطول الخامس الأميركي في 2 سبتمبر/أيلول الجاري، فإن السفينة “جماران” الإيرانية الحربية استولت على القاربين المسيرين. بيد أن قيادة الأسطول “رصدت” السفينة الإيرانية وهي تسحب القاربين من المياه، فحرَّكت مدمرتان بحريتان ومروحية عسكرية لاعتراض طريق السفينة الإيرانية، فيما قام طاقمها بتغطية القاربين بأغطية قماشية لإخفائهما. وقد وجهت المدمرتان طلبا للسفينة الإيرانية بإطلاق سراح القاربين المسيرين، وفي النهاية أطلق الإيرانيون سراح القاربين، بينما نقلت “رويترز” عن التلفزيون الرسمي الإيراني قوله إن قوات إيران البحرية احتجزت القاربين لتلافي وقوع حادث، وأنها أعادتهما بعد تأمين الممرات الملاحية. وهو ما رد عليه الأسطول الخامس الأميركي قائلا إن القوارب المسيرة لم تُشكِّل خطرا على الملاحة البحرية، كما أنها كانت تعمل في جنوبي البحر الأحمر بسلام طيلة 200 يوم.

 

لعل “الهندسة العكسية” هي المفتاح لفهم دوافع إيران للإقدام على مثل هذه الأفعال. ففي عام 2014 طارت للمرة الأولى الطائرة المسيرة إيرانية الصنع “شاهد 171 سيمورغ”، وكان تصميمها صورة طبق الأصل من المسيرة الأميركية “آر-كيو 170″، وهي تلك المسيرة التي استولت عليها إيران بعد إسقاطها في ديسمبر/كانون الأول 2011، حيث أجرى العلماء الإيرانيون ما يُعرَف بالهندسة العكسية، أي تفكيك المسيرة ودراسة كل مكوناتها بهدف بناء مثيلتها.

An Iranian Shahed 171 drone dropping a bomb as part of a military exercise in the Gulf, in Iran, in this undated handout photo. Tasnim News Agency/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.
طائرة بدون طيار إيرانية “شاهد 171” تلقي بقنبلة في إطار مناورة عسكرية في الخليج (رويترز)

يبدو إذن أن التنافس البشري على خوض الحروب دون حمل السلاح والنزول إلى أرض المعركة سيستمر في الاحتدام حتى تتحقق نبؤات بعض أفلام الخيال العلمي ويقاتل البشر بعضهم بعضا من أماكنهم في غرف التحكم، وباستخدام مركبات مسيرة بحرًا وجوًّا وأرضًا. حتى اللحظة الراهنة، لا تزال القوارب المسيرة أقل كفاءة وانتشارا على الصعيد العسكري من الطائرات المسيرة، بيد أن إمكانية تحوُّلها إلى سلاح في ميادين القتال البحرية ليس بعيدا، فقط حال قررت إحدى الدول الكبرى أن تبادر بتجربتها على نطاق واسع، وجرَّت خلفها عشرات الدول إلى سباق جديد من أجل القوارب المسيرة.

علي العمري

محرر وكاتب أخبار في صحيفة "موقعي نت"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى