سعيد بلقاضي يطارد حلمه بنشر السماع الصوفي بين العامة | فن


هؤلاء المولعون بتعلم فن السماع والموسيقى التراثية هم في الأصل جمهور هذا الفن، كانوا في ما مضى يملؤون المسارح للاستمتاع بأداء الفرق الفنية المحترفة وتذوق القصائد والموشحات، واليوم أصبحوا ممارسين ومحترفين بعد أن تعلموا في الورشات أصوله وقواعده العلمية والأكاديمية.

الرباط- يملأ عبق بخور العود مسرح قاعة علال الفاسي بالرباط قبيل انطلاق ورشة فنية لتعليم السماع الصوفي والموسيقى الأندلسية بلحظات.

“مجالس الطيب لا تبدأ إلا بالطيب”، يقول الفنان المشرف على الورشة سعيد بلقاضي، للجزيرة نت، وهو يحمل مبخرة ويجول بين الكراسي.

بلقاضي يرى أن تطييب المكان جزء من طقوس السماع الصوفي، فهذه المجالس ليست كغيرها وتلزم تهيئة الحاضرين بخلق أجواء روحانية تتناسب مع ما سيكون فيها من ذكر وكلام راقٍ.

يتوافد المستفيدون تباعا وفي يد كل واحد منهم ملف يحتوي القصائد المقررة لهذا الموسم، تبدأ الورشة بمراجعة المحفوظ من القصائد والموشحات، يتدخل سعيد عند كل خطأ، ليصحح الميزان والأداء، ولا ينفك بين الفينة والأخرى ينقلهم إلى معانٍ عرفانية تحثهم على التجاوب مع روح هذا الفن الأصيل وتشرب كلماته وموازينه، وليس فقط حفظها وأدائها.

لا يتساهل بلقاضي مع الأخطاء مهما كانت بسيطة، فهو لا يريد أن ينزل بمستوى هذا النمط الفني ليؤديه المستفيدون بيسر وسهولة، بل يرى أن عليهم بذل جهودهم ليصعدوا بأدائهم إلى المستوى الراقي.

آمال باي واحدة من المستفيدات من هذه الورشة التي تشرف عليها جمعية نور الأصيل، تحضر منذ 4 أشهر بانتظام لتنهل من خبرة بلقاضي وتجربته في عوالم السماع الصوفي والموسيقى الأندلسية.

لا تفوت آمال حضور الحفلات الخاصة بهذا الفن في مدينة الرباط، فهي من المولعات بالسماع الصوفي، وقد وجدت في هذه الورشة فرصة لتعلم أصوله وقواعده على يد فنان شغوف به.

تقول للجزيرة نت إن سعيد بلقاضي نقل إليهم الشغف والرغبة في سبر أسرار هذا التراث وإتقان أدائه والغوص في روحه، وهي الآن متحمسة للمشاركة في حفل كبير تعتزم الجمعية تنظيمه قريبا، سيعرض فيه أعضاء الورشة ثمار جهودهم وما تعلموه.

روح وفن

منذ طفولته، ارتبط الفنان سعيد بلقاضي بفن السماع الصوفي، إذ كان يرافق جده إلى الزاوية الدرقاوية في طنجة، حيث تعلم أصول السماع والموسيقى الأندلسية وحفظ القصائد والموشحات وأصبح حاليا فنانا معروفا ومشهودا له بالكفاءة.

دخل الطرب الأندلسي أو موسيقى الآلة إلى المغرب مع وفود المهاجرين الأندلسيين، ويخضع لنظام النوبة الذي يرتكز على متتالية من المقطوعات، تحافظ على مبدأ عام للتسارع داخل فترات إيقاعية معلومة.

وقد استقر عدد النوبات في نهاية القرن 17 الميلادي على 11 نوبة تستعمل الإيقاعات الخمسة نفسها، وفق تعريف كتاب “معلمة المغرب” لهذا النمط الموسيقي.

و”معلمة المغرب” هو قاموس يحيط بالمعارف المتعلقة بمختلف الجوانب التاريخية والجغرافية والبشرية والحضارية للمغرب الأقصى، أنجزته الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر.

أما السماع، فهو أحد أنماط الموسيقى المغربية ويراد به إنشاد القصائد والأشعار الدينية الصوفية، وفق طبوع وأنغام معينة وبالاعتماد على الأصوات فقط.

ويرتكز السماع على الشعر الصوفي بأغراضه المتنوعة من ذكر وابتهال وتوسل ومدح للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويرجع ظهور فن السماع إلى فترة الموحدين، وقد نشأ وتطور في الزوايا وتنافس مريدوها في نظم الأشعار الصوفية وأدائها.

يسعى بلقاضي إلى نقل شغفه بهذا التراث الفني الأصيل إلى كل مكان في البلاد، وتقام ورشات في مدن طنجة والرباط والدار البيضاء والجديدة، حيث يقبل عشاق هذه الأنماط الفنية من مختلف الفئات العمرية على تعلمه.

يقول بلقاضي للجزيرة نت “هدفنا إخراج هذا الموروث بطريقة أكاديمية مبنية على أسس صحيحة من حدود الزاوية والمجالس النخبوية إلى جميع الناس وتحبيبهم فيه”.

ويرى أن الإقبال على التسجيل في هذه الورشات “دليل على أن الفن الراقي له دائما مستمعون وعشاق مهما علت الموجات الموسيقية الجديدة وانتشرت”.

يرأس سعيد بلقاضي جمعية رياض الطرب للموسيقى والسماع الصوفي بطنجة، وفي ورشته يحضر نحو 200 مهتم بالتراث الموسيقي الصوفي والأندلسي من مختلف الفئات العمرية.

في الرباط يحضر الورشة -التي تسهر على تنظيمها جمعية نور الأصيل للموسيقى- نحو 80 فردا، يقول الكاتب العام حسن الجندي للجمعية للجزيرة نت إن هؤلاء هم أعضاء فرقة سعيد بلقاضي الفنية بالرباط، وسيحيون بعد إتمام تدريباتهم حفلات في فني السماع والآلة.

هؤلاء المولعون بتعلم فن السماع والموسيقى التراثية هم في الأصل جمهور هذا الفن، كانوا في ما مضى يملؤون المسارح للاستمتاع بأداء الفرق الفنية المحترفة وتذوق القصائد والموشحات، واليوم أصبحوا ممارسين ومحترفين بعد أن تعلموا أصوله وقواعده العلمية والأكاديمية.

لا يغفل سعيد الجانب الروحاني لهذا التراث الفني، ففي نظره لا يمكنه تعلم السماع بمعزل عن الأصل والمنبت، وهو الزوايا بكل ما تمثله من المعاني المرتبطة بالروحانيات وتهذيب النفس وتزكيتها.

النساء في الصدارة

رغم تنوع الفئات العمرية التي تحضر ورشات سعيد بلقاضي، فإن أغلبهم نساء، ربات بيوت وموظفات، شابات وكبيرات في السن. يفسر بلقاضي هذا الأمر بكون النساء يبحثن دائما عن تكتلات عائلية للانتماء، لذلك يجدن في ورشات تعلم السماع عائلة فنية كبيرة ينتمين إليها بكل تلقائية.

ويضيف أنه “حينما كانت هذه الأنماط الفنية حبيسة جدران الزوايا لم يكن للنساء حضور، وإن حضرن فإنهن يكنّ في خلفية المشهد، وبعد خروجه من الزوايا، أقبلت النساء على تعلم هذا الفن، وانتقلن من وضع المستمع من بعيد إلى وضع الممارس والعالم بأصول الأداء”.

يرى الفنان سعيد بلقاضي أن تعليم هذا الفن وفق الأصول والقواعد في هذه الورشات جزء من واجبه، لذلك يتنقل بين مختلف المدن بلا كلل ولا ملل لتأطير الورشات وإقامة الحفلات الفنية.

يقول “علينا كفنانين أن نعمل بجد للوصول إلى عشاق هذا الفن دون أن نلتفت للعراقيل، ونعمل على نشر هذا التراث، حتى يكون في كل مدينة ورشات مثل هذه”.

علي العمري

محرر وكاتب أخبار في صحيفة "موقعي نت"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى